ديناميات غزة المتغيرة- المقاومة والصراع السياسي والإبادة الإنسانية.

المؤلف: منير شفيق10.21.2025
ديناميات غزة المتغيرة- المقاومة والصراع السياسي والإبادة الإنسانية.

مع مرور الأيام وتوالي محطات الصراع في غزة الصامدة، تتغير المشهدية السياسية وتتبدل موازين القوى بشكل متسارع. إن مواقف الدول المؤثرة تتأثر بالتطورات الميدانية المتلاحقة، كما أن الرأي العام العالمي يشهد تحولات مستمرة، الأمر الذي يجعل عملية تقييم الوضع السياسي مهمة ديناميكية تتطلب مراجعة مستمرة وتقييمًا دقيقًا.

ومع ذلك، تبرز في ثنايا هذا المشهد المتغير سمات أساسية ظلت ثابتة طوال فترة الحرب. فمن الواضح أن المقاومة الفلسطينية قد حافظت على زمام المبادرة طوال الوقت، وحافظت على تفوقها النوعي في إدارة المعركة البرية.

وثمة سمة أخرى لم تتغير، وهي وجود مسارين متوازيين لهذه الحرب. المسار الأول هو المواجهة العسكرية المباشرة بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي. والمسار الآخر هو حرب الإبادة الشرسة التي يشنها جيش الاحتلال ضد المدنيين الأبرياء. هاتان الحربان تجريان في مسارين منفصلين، وحرب الإبادة تمثل جريمة مكتملة الأركان بذاتها، ولا علاقة لها بالعمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل ضد المقاومة، ولا تحقق أيًا من أهدافها المعلنة.

لقد أشعلت هذه الجريمة النكراء ضد الإنسانية جذوة الغضب في الضمير العالمي، وأثارت موجة من الاحتجاجات العارمة في كل مكان. كما أدت إلى تنامي التعاطف الشعبي والرسمي مع المقاومة الباسلة والشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. وقد استمر هذا الدعم والتعاطف ثابتًا طوال الأشهر التسعة الماضية، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

أما التغيير الأكثر وضوحًا، فهو التذبذب المستمر في المواقف والتحالفات بين يوم وآخر. فعلى سبيل المثال، خلال الأيام الأولى من شهر يوليو/تموز الحالي، تراجع الحديث عن المفاوضات التي كانت تجري بوساطة أميركية ومصرية وقطرية، بهدف استئناف اتفاق الهدنة المتعثر.

وقبل ذلك بأسبوع أو أكثر، سحبت الولايات المتحدة مشروعها لاتفاق الهدنة الذي حظي بتأييد العديد من الدول، واتهمت حركة حماس بأنها الطرف الوحيد المسؤول عن إفشال ذلك الاتفاق، وبرأت ساحة نتنياهو من أي مسؤولية عن ذلك، وادعت أنه كان موافقًا عليه من حيث المبدأ.

لكن المفارقة العجيبة تكمن في أن حركة حماس كانت هي من أعلنت موافقتها الصريحة والرسمية على مشروع الاتفاق، في حين طالب نتنياهو بإدخال تعديلات تعجيزية عليه، واستخدم التحفظ على هذه التعديلات ذريعة للانسحاب الهادئ من الاتفاق، دون أن يعلن في أي لحظة أنه كان موافقًا عليه.

إن سحب أميركا لمشروعها يعني منح نتنياهو حصانة كاملة من أي ضغوط أميركية أو أوروبية قد تثنيه – ولو بشكل جزئي- عن قراره الحاسم بمواصلة الحرب حتى تحقيق أهدافه المزعومة. وتحميل المسؤولية الكاملة لحماس عن استمرار هذه الحرب المدمرة. وبهذا، حقق نتنياهو مكاسب مزدوجة، وهي: رفع الضغوط الدولية الهادفة إلى وقف الحرب، وإعفاؤه في الوقت نفسه من أي مسؤولية عن استمرارها، وهذا هو طموحه الأكبر وهدفه الأساسي. وفي الوقت الذي كان فيه بايدن منشغلًا بهزيمته النكراء في المناظرة الرئاسية أمام ترامب، كان الجيش الإسرائيلي يمضي قدمًا، بأوامر مباشرة من نتنياهو، في تنفيذ حرب إبادة شاملة ضد المدنيين وتدمير المنازل، مع التركيز بشكل خاص على توسيع نطاق المجاعة ومنع وصول المساعدات الإنسانية الضرورية.

لكن المفارقة المدهشة تتمثل في قدرة المقاومة الفلسطينية على تصعيد عملياتها العسكرية بشكل ملحوظ، وإلحاق خسائر فادحة بصفوف الجيش الإسرائيلي، سواء في الأرواح أو المعدات والآليات العسكرية، وكأنها عادت أقوى مما كانت عليه طوال الأشهر التسعة الماضية.

لا يعير نتنياهو اهتمامًا كبيرًا لحجم الخسائر التي يتكبدها جيشه في الميدان، سواء في قطاع غزة أو على الحدود مع لبنان، أو بسبب الحصار البحري الذي تفرضه عليه قوات الحوثيين في اليمن. فأولويته القصوى هي البقاء في السلطة بأي ثمن، خوفًا من أن يؤول به المطاف إلى السجن إذا ما انتهت الحرب. وأهم ما يحرص عليه لتحقيق هذا الهدف هو الحفاظ على أغلبية ضئيلة في الكنيست الإسرائيلي ليبقى في منصبه، وهو ما يضمنه له التحالف مع بن غفير وسموتريتش.

إن جميع التطورات التي شهدتها هذه الحرب حتى الآن كانت تصب في غير مصلحة الكيان الصهيوني وجيشه. فهو يدفع ثمنًا باهظًا في الميدان العسكري، سواء في قطاع غزة أو في الجبهات الأخرى المساندة للمقاومة، ويخسر معركة الرأي العام على المستويين الداخلي والخارجي، وتتآكل مصداقيته السياسية والأخلاقية على الصعيد العالمي.

لقد كانت بضعة أشهر من هذه الخسائر كافية لاتخاذ قرار بوقف العدوان الغاشم، والاعتراف – ولو ضمنيًا – بالهزيمة، لكن ذلك لم يحدث بسبب حسابات لا علاقة لها بالحرب، ولا بأصول إدارة الصراع، وإنما إرضاءً للغرور والرغبة في الانتقام، والخوف من العواقب الوخيمة لإعلان الهزيمة.

وقبل أن ينتهي الأسبوع الأول من يوليو/تموز 2024، تقدّمت قيادة حركة حماس، بالتنسيق مع قيادة الفصائل المقاومة الأخرى في قطاع غزة، بمقترحات جديدة وجادة لإخراج مفاوضات الهدنة من حالة الانسداد التي وصلت إليها. وقد أدت هذه المبادرة على الفور إلى تغيير معادلة الحراك السياسي الذي كان قد دخل مرحلة الاختناق الشديد.

والأهم من ذلك أنها أحدثت إرباكًا واضحًا للأميركيين الذين حاولوا إلقاء الكرة في ملعب حماس بتحميلها المسؤولية عن فشل المفاوضات، ولنتنياهو الذي اطمأن إلى ذلك. فإذا بها تعيد الكرة إلى ملعبهم وتحملهم تبعات أفعالهم وقراراتهم.

لقد أثبتت قيادة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، براعة فائقة في إدارة الصراع السياسي، لا تقل عن مهارتها في ميدان الحرب البرية، الذي حولته إلى شبكة معقدة من الفخاخ المحكمة التي تحيط بالجيش الإسرائيلي من كل جانب. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن ذكاءهم وتكتيكهم القتالي المتميز، سواء في الدفاع أو الهجوم، قد أضافا فصولًا جديدة ومهمة إلى علم الحروب غير المتكافئة وقتال المدن.

وهكذا، بكلمة واحدة من حماس وقادة المقاومة، تغيّر المشهد الدولي بشكل جذري في أقل من 24 ساعة، وأصبحت الأنظار متجهة إلى مفاوضات الدوحة، في انتظار ردّ نتنياهو ومن يقف وراءه. وعندها ستتغير المعادلة مرة أخرى، سلبًا أو إيجابًا. هذا التغيير المستمر والمتلاحق، هو السمة البارزة التي تكررت طوال الأشهر التسعة من الحرب في غزة.

وتبقى ملاحظة أخيرة جديرة بالذكر، وهي أن نظرة فاحصة ومتأنية إلى أحوال القيادة السياسية في أميركا والكيان الصهيوني والعالم الغربي عمومًا، تكشف أنها تتجه يومًا بعد يومٍ نحو مزيد من التدهور والانحدار والانحطاط على كافة المستويات. وعلى النقيض من ذلك، فلو نظرنا إلى مستوى قيادة المقاومة وجنودها الأبطال لوجدناه يرتقي نحو النمو والازدهار والتميز.

إننا نشهد ولادة كيان جديد ينمو ويكبر ويزداد قوة في ناحية، وشيخًا هرمًا تزيده الأيام ضعفًا ووهنًا كلما مرت. وفي هذا وحده يكمن باب عظيم للأمل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة